سأحكي لكم اليوم قصة من عجائب القصص ، تُضحك وتُبكي ، وتُغضب وتفرِح ! تجعلك تقف على قدميك تارة، وتحتبي تارة! تُبكيك حتى إذا ما هلّ الدمع صرختْ في حناياك مقهقهةً ضاحكة، إنها قصة لا كالقصص ، فاسمعوها إن شئتم .. من منكم من لا يعرف سيبويه ! أو لم يَطْرق آذانه هذا الاسم ! نعم هو سيبويه! يعرفه الصغير والكبير ، اسمه عمرو بن عثمان بن قَنْبَر ، وسيبويه لقبٌ له ومعناه (رائحة التفاح) ، وكان لا يزال من يلقاه يشم منه رائحة الطِّيب ، أصلة من أرض فارس ونشأ بالبصرة ، ومات بشيراز وكان عمره يوم وفاته قد نيّف على الأربعين .. القصة يا سادة أنه حدثت بينه وبين الكسائي المشهور مناظرة في عصر هارون الرشيد ، وبدؤها أن سيبويه حضر عند يحي بن خالد البرمكي فسأله يحي عن خبره فقال سيبويه : جئتُ لتجمع بيني وبين الكسائي ، فقال : لا تفعل فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها ، ومؤدب ولد أمير المؤمنين ، وكل من في المِصْر له ومعه ، فأبى إلا أن يجمع بينهما ، فعرّف الرشيدَ خبرَه ، فأمره بالجمع بينهما فوعده بيوم.فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده ! إلى دار الرشيد ، فوجد الفرّاء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه ، وهؤلاء كلهم من أصحاب الكسائي ويقولون بقوله في مسائل النحْو ، فسأله الأحمر عن مائة مسألة فما أجابه عنه بجوابٍ إلا قال له الأحمر أخطأت يا بصري ، فوَجَم سيبويه وقال : هذا سوء أدب . ثم حضر الكسائي ومعه خلقٌ كثيرٌ من العرب ، وكان سيبويه قد شقّ أمرُه عليه بما فعله معه خلف الأحمر ، فسأله الكسائي عدداً من المسائل ومنها مسألة العقرب والزنبور ، قال له الكسائي كيف تقول "قد كنتُ أظن أن العقرب أشدُّ لسعةً من الزنبور فإذا هو هي ، أو فإذا هو إياها ؟ فقال سيبويه : فإذا هو هي ، ولا يجوز النصب ، فقال الكسائي : لحنْتَ ، وخطّأه الجميع ، وقال الكسائي : العرب ترفع ذلك كله وتنصبه . ودفع سيبويه قولَه فقال يحي بن خالد : قد اخلتفتما وأنتما رئيسا بلدَيْكما ، فمن يحكم بينكما وهذا موضعٌ مشكل ؟ فقال الكسائي : هذه العرب ببابك ، قد جمعْتَهم من كل أوْب ، ووفدتْ عليك من كل صِقْعٍ وهم فُصَحاء الناس وقد قنِع بهم أهل المِصْرَين ، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم فيُحضرون ويُسألون.فقال يحي وجعفر : قد أنصفتَ ، وأمر بإحضارهم فدخلوا وفيهم أبو فقعس ، وأبو دثار ، وأبو ثروان فسُئلوا عن المسائل التي جرت بينهما فتابعوا الكسائي ، فأقبل يحي على سيبويه فقال : قد تسمع أيها الرجل ؟ فانصرف المجلس على سيبويه وأعطاه يحي عشرة آلاف درهم وصرفه ، فخرج سيبويه وصرف وجهه تلقاء فارس ، وأقام هناك حتى مات غمّاً بالذّرَب ، ولم يلبث إلا يسيراً ولم يعد إلى البصرة .. ولما مرض سيبويه مرضه الذي مات فيه ، جعل يجود بنفسه ويقول :يؤمِّل دنيا لتبقى له ---------- فمات المُؤمِّلُ قبل الأملْحثيثاً يُروِّي أصول النخيلْ--------------- فعاش الفسيلُ ومات الرجلْقالوا : ولما اعتلّ سيبويه وضع رأسه في حِجر أخيه فبكى أخوه لمّا رآه لِما به ، فقَطرتْ من عينه قطرةٌ على وجه سيبويه ، ففتح عينه فرآه يبكي فقال :أُخيَّينِ كُنّا فرّق الدهرُ بيننا ----
إلى الأمد الأقصى ومن يأمنُ الدهرامات سيبويه رحمه الله غيضاً وكمداً مما جرى له مع الكسائي ، يقول الأصمعي : قرأتُ على قبر سيبويه بشيرازَ هذه الأبيات وهي لسليمان بن يزيد العدويّ :ذهب الأحبةُ بعد طول تزاورٍ -----
ونأى المزارُ فأسلموكَ وأقشعواتركوك أوحش ما تكون بقفْرةٍ----------
لم يُؤْنِسوك وكُربةً لم يدفعواقُضيَ القضاءُ وصِرتَ صاحب حفرةٍ--------
عنْك الأحبة أعرضوا وتصدّعوامات سيبويه رحمه ولكن قصته مع الكسائي وأصحابه لم تنتهِ ، فقد غضب صاحبه الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة مما حدث لسيبويه، فمضى ليأخذ بثأره.يقول الأخفش ـ وكان من أصحاب سيبويه وكان أكبر منه سِنّاً :" لما ناظر سيبويه الكسائيَّ ورجع وجّه إلي فعرّفني خبرَه معه ومضى إلى الأهواز ، فوردتُ بغداد فرأيتُ مسجد الكسائي فصليتُ خلفه الغداة ، فلما انْفتل من صلاته وقعد وبين يديه الفرّاء والأحمر وابن سعدان ، سلمتُ وسألته عن مائة مسألة، فأجاب بجواباتٍ خطّأتُه في جميعها ، فأراد أصحابه الوثوب عليّ فمنعهم، ولم يقْطَعني ما رأيتهم عليه عما كنتُ فيه ، فلما فرغتُ قال لي : بالله أما أنت أبو الحسن سعيدُ بن مسعدة؟ قلت نعم، فقام إليّ وعانقني وأجلسني إلى جنبه ... " آآآآآآآه .. لقد أخذ الأخفش بثأر صاحبه الذي مات كمداً وغيضاً ، ولكن هل انتهت القصة إلى هنا؟! لا .. لم تنتهِ بعد ، فماذا بعدُ ؟! العجيب أن بعض أولئك الذين قتلوه كمداً وعلى رأسهم الكسائي ، أدركوا فضل سيبويه ، ولكن بعد ماذا ؟ فقد قرأ الكسائيُ كتاب سيبويه على الأخفش سرّاً، ووهب له سبعين ديناراً ، وأما صاحبه الفرّاء ! فيقول الإمام ثعلب : " مات الفراء وتحت رأسه كتاب سيبويه " ومن العجائب أن القصة لم تنته ، حدّث هارون الزيات قال : " دخل الجاحظ على أبي وقد افتُصد فقال له : أدام الله صحتك ووصل غبطتك و لا سلبك نعمك ، قال : ما أهديت لي يا أبا عثمان ؟ قال الجاحظ : أطرفَ شيء؛ كتابَ سيبويه بخطِّ الكسائي وعرْض الفرّاء ! " يا لها من قصة امتدت أحداثها ، ولم تنته بموت صاحبها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق