السبت، 18 يناير 2014

عبقرية اللسان ولسان العبقرية

عبقرية اللسان و لسان العبقرية.

لستُ بقيسٍ يماني ، أو عنترة عبسي ، بل أنا فتاة عربية ترثي أمها ، قد تعتقدون أن أمي ميتة لذا أرثيها ، لا أمي حية . و لكن الموت أهون من الحياة التي تعيشها .
أمي يا عرب تموت في اليوم آلاف المرات فما بالكم بسنواتٍ تقاسيها موتاً مريراً .
أمي تتلقى الهجاء اللاذع من جميع إخوتي الكرام ، أولئك الذين نسوا قدرها ، هجروها ، و أودعوها عالم النسيان ... أسكنوها الجحيم و قد أرضعتهم الحنان إرضاعاً و أذاقتهم حلاوة النعيم ، علمتهم ، أخلصت في تربيتهم ، لم تبخل عليهم بشئ ، أياً كان ثمنه ... و الآن بكل بساطة و جهالة يتجاهلونها ، يرمون بها إلى الحضيض ... يعتقدونه فلاحٌ ذلك الذي يفعلونه ، و ما أدراكم كيف يفعلونه! . يهجروها و هم باسمون ، ضاحكون ، فرحون ... جهلة أولئك الأبناء .
أيها الأحبة . أمي هي لغتي الحبيبة ، لغة الفصاحة التي شملت من الجمال أتمه ، و من العذوبة أرقها ، و من الحسن أفضله ، و من الحلاوة أروعها . تلك التي رفعت قدر أمة محمد ؛ فأصبحت بفضلها مهابة محترمة ... تلك اللغة التي اختارها الباري لتكون لغةً يتنزل بها أسمى الكتب على الإطلاق . (( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْـقِلُونَ)) يوسف:2
لغة زادت عظمتها بتحدث خير البرية بها (( أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، و نشأت في بني سعد )). فكيف أيها العرب تهجرونها .. كيف ؟؟!
لغة القرآن التي محاسن لم تحوها لغة غيرها ، فإليكم بعض ما أفتخر به من محاسن حبيبتي .. و أظل أنشد هذه المحاسن غزلا و اعتزازا . :
أولا : هي لغة إيجاز و إعجاز ، و لغة اشتقاقية فريدة ، لا سيما أنها أفضل اللغات في الاشتقاق .
ثانيا : لغة غنية بأفعالها و حروفها .
إن الذي ملأ اللغات محاسناً جعل الجمالَ و سره في الضادِ .
ثالثا : لغة تحتمل الإضمار ، و التقديم و التأخير و الحذف ، و غير ذلك الكثير ... الخ.
رابعا : لغة ذات تراكيب إعرابية كثيرة ، فإذا تعذر الإتيان بهذا التركيب جي ء بغيره .
خامسا : يكفي أنها لغة قرآن كريم و بلاغة محمدية فصيحة ، و لغة ضادية .. احتوت على حرف لا يوجد في أي لغة أخرى . (( وقال الشيخ صالح بن حميد رئيس شؤون الحرمين من أحبّ الله أحبَّ محمداً، ومن أحبّ محمداً أحبّ القرآن الكريم، ومن أحبّ القرآن الكريم أحبّ اللغةَ العربية، لذا .. كان تعلّمها وإتقانها من الديانة؛ فهي أداة علم الشريعة ، ومفتاح التفقّه في الدين )).
لغة الفرقان لغة عنيدة الجمال ، و بديعة الكمال ... تتربع على عرش الرقي ، و تتحلى بأسمى ملامح الإبداع ، كيف لا و قد استفاض بها الأدباء ، و تغنى بها الشعراء؟! ، بل و أسرت قلوب العلماء ، كما استخدمها كافة الفقهاء ... فكيف اليوم نهجرها بهذا الجفاء و نتهمها بالعقم و نصفها باللغة الشمطاء الخرقاء ....
أي عقل ذاك الذي يصدق أن تكون لغة كانت ذات يوم أسمى لغات الأرض و أعلاها مرتبة و منزلة و أرفعها مكانةً أردأ اللغات في نظر أبناء اليوم و أكثرها تخلفاً و عجزاً عن مواكبة الحضارة .
شهدت اللغة العربية في الآونة الأخيرة ضعفاً ملحوظاً و تراجعاً ظاهراً كان سببه عدة عوامل من أهمها
o الابتعاد عن القرآن و ألفاظه المعْجَزة، و الحديث الشريف بألفاظه و أساليبه الثرية ..
o الغزو الثقافي المبرمج لإضعاف اللغة العربية و الحط من شأنها . و لا سيما وفود اللغات الأعجمية التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تعدد الألسنة .
o اعتقاد الكثير من المثقفين بعجز اللغة العربية عن استيعاب العلوم الحديثة و مواكبة الحضارة .
o تدني حركة الترجمة من و إلى العربية .
o عدم تحفيز القائمين على الأنشطة الثقافية العربية .
o الاعتماد الكلي على اللغات الأعجمية في معظم المجالات .
o وجود لغات قومية غير عربية في بعض الدول العربية .
قد يعتقد الكثير أن لغة الضاد لغة عقيمة ، تعجز عن مسايرة ركب الحضارة و مواكبة قطارها . و لكنه بكل تأكيد ظلم عظيم في حق هذه اللغة .
و إليكم دحض هذا الاعتقاد الباطل :
اتسعت اللغة العربية لتشمل جميع العلوم الإنسانية و بلغت أوج كمالها و منتهى ازدهارها في العصر العباسي ، و خاصة في عهد المأمون بن هارون الرشيد حيث نشطت في ذلك العصر أغلب علوم اللغة العربية بما فيها الترجمة و الأدب .
و لا يخفى على الجميع أولئك الذين أبدعوا في مجال الترجمة و حركوا عجلة تقدمها و من أبرزهم
( ابن المقفع ،الفارابي ، ابن رشد ) .
و لا ننسى ظهور فنون جديدة في ذلك العصر الذهبي ـ العصر العباسي ـ من مثل ظهور فن المقامات الذي كان نواة للقصة في الأدب العربي و من أشهر رواده في العصر العباسي :
( ابن دريد ، بديع الزمان الهمذاني ، الحريري ) .
و في عصرنا الحديث :
( اليازجي ، المويلحي ).
فلله درهم !أولئك العباقرة الجهابذة الذين جعلوا من اللغة العربية وطناً سكنت فيه إبداعات عقولهم و حلقت في سمائه عبقرية أعمالهم . فما زلت أرى ذلك البريق في تلك السماء التي لم تلمع قط إلا بتحليقهم في أعاليها .
و نعود لنواصل مشوار تلك الحسناء مع الاتهامات الظالمة في حقها ...
لغتنا الأم تناسب كافة الأزمنة و الأماكن ، فلقد كان لها دورها الفاعل في الارتقاء بنا إلى أعلى درجات الحضارة و الثقافة ... لا سيما أنها لغة لها قواعدها و أسسها التي لا تضاهي أي لغة أخرى من لغات هذا العالم . وهي لغة تواكب الحضارة و النهضة العلمية بفضل المجمع اللغوي الذي لا زال يشكل عقدا ماسيا تضعه اللغة العربية على عنقها الساحر .
أسئلة كثيرة التي تطرح نفسها ... أرى علامات استفهام تصول و تجول في خضم هذا الموضوع ؟!
فياترى كيف تلبسك تلك اللغة ثوب الوقار و الهيبة ؟؟!
حسنا ، لا يمكننا الإجابة على هذا السؤال إلا بتطبيق مثال عملي عليه .
تخيل معي نفسك و أنت تقف في منصة إحدى المحاكم ترفع قضيتك للقاضي لينظر فيها ، فبأي لغة أنت متكلمٌ يا ترى ؟! . أستتحدث بلهجة عامية أم لغة أعجمية بلا شك ستتحدث بلغة عربية فصيحة و أنت على يقين بأن قضيتك ستحظى باهتمام مهما كان تافهة ، فلو تحدثت بلهجة عامية أو لغة أعجمية لما وجدت إحتراما ومن القاضي و من الحاضرين .
أعرفت الآن ، كيف تلبسك تلك اللغة ثوب الوقار و الهيبة .
مثال آخر أيها العربي ، ماذا تفعل إذا حضرت مؤتمرا صحافيا أتتحدث بما تتحدثه في منزلك ـ عامية ـ أم أنك ستطرح أفكارك و تعرض رأيك بلغة فصيحة سليمة ، لتوصل رأيك لكل حاضر .إذا لم تطرحها بتلك الفصيحة لن تجد من يصغي إليك و بالتالي تصبح عديم الاحترام و مفقود الوقار .
لما كانت الأم والدة ، أعطاها الله حقوق يلي حقوقه مباشرة من بر و احترام و تقدير .
فوجب على الأبناء رعاية أمهم في كبرها ، كما وجب علينا رعاية اللغة العربية في جميع مراحلها . لماذا نتخلى عنها و هي الأم الحنونة و اللسان المعطاء الذي لا مثيل له .
كيف يمكننا رعاية تلك اللغة ، أنرعاها بالتحدث بها فقط أم هناك المزيد من سبل رعايتها . لا شك أن هناك الكثير الكثير لحفظ تلك اللغة و رد بعض جمائلها التي لا زلنا ننعم بها ، و من هذه الطرق :
· قراءة القرآن و تمعن معانيه ، و حفظ ما أمكن منه .
· قراءة الأحاديث و السنة الشريفة ، لا شك أن لغة الرسول هي لغة المعاني الثرة و البلاغة الرصينة .
· التحدث بالفصحى قدر الإمكان ، و ذلك لحمايتها و حماية اللسان العربي من أثار الغزو اللغوي الحديث .
· الافتخار بها في كل الظروف و كافة البقاع ، و جميع المحافل .
· الإطلاع على ما كتبه السلف الصالحين من كتب تزخر بلغة فصيحة متينة .
· تصفح المعاجم بشكل شبه دوري ، للتعمق في أسرار تلك اللغة إثراء المخزون اللغوي بالمفيد النافع ، كما أنه ليس بالضرورة أن تكون تلك المعاجم معاجم لغوية بحتة ، يمكن أن تكون معاجم شخصيات و تراجم أو معاجم معاني ... و غيرها الكثير .
· قراءة الشعر الفصيح الشعر و الجاهلي ـ ما صلح منه ـ على وجه الخصوص و حفظ ما أمكن حفظه لا سيما أن ذلك الشعر ـ الجاهلي ـ أجواد أنواع الشعر لغةً و بلاغة ً و فصاحة ً و متانةً .
لا شك أن الجميع منّا قد نهل من معين تلك اللغة ، و ما من واردٍ على فيضها إلا و آت ٍ مرتوٍ .
أياترى ، ما دور الطالب و المعلم في رعاية اللغة العربية ، و ما مدى اسهام كل فئة في المجتمع العربي في تلك الرعاية . لكم بعض الذي وجدتْ فيما يختص بدور الطالب و المعلم :
§ التحدث بالفصحى في أغلب الحصص التي تحتمل ذلك .
§ توظيف دراسة اللغة على النحو الصحيح تحدثاً و كتابةً .
§ إقامة دورات فاعلة ـ للحفاظ على لغة الضاد ـ تحت اشراف معلمي اللغة العربية و موجهيها
§ الإكثار من حصص اللغة العربية في الجدول المدرسة لزيادة فرص تعلم تلك اللغة و رعايتها .
§ إقامة مسابقات تتضمن أغلب جوانب اللغة العربية ، و ذلك لتحفيز الطلاب و الطالبات على إحياء تلك اللغة .
§ تشكيل جماعات من الطلاب تهتم برعاية اللغة العربية و حمايتها داخل نطاق المدرسة و خارجها .
§ الإكثار من كتابة المقالات و القصص لتوظيف فروع اللغة في تلك المجالات .
أما عن رعاية اللغة العربية على نطاق أوسع ـ المجتمع ـ فيتلخص في هذه النقاط :
§ تعريب العلوم في كافة المراحل الدراسية .
§ الحث على حركة الترجمة .
§ تشكيل جماعات متخصصة تعنى باللغة العربية و تمثلها في كافة المحافل الدولية و العالمية ، كـــ ( جمعية حماية اللغة العربية بالشارقة ) .
§ الاكثار من العربية في لافتات المحال التجارية ، مع تزويدها بالغة الانجليزية لخدمة الأعاجم
يقولون حب اللغة العربية واجبا ، فلماذا يا ترى هو واجب ؟؟
لغة القرآن .. لغة عظيمة يخسر من لا يحبها من ذا الذي يعرفها و يجهل معنى الحب ؟!!
فما إن تتعمق فيها حتى تحبها و ما إن تحبها حتى تهواها و ما إن تهواها حتى تعشقها فتصبح مجنونا بحبها و تجعلها ليلاكَ المنشودة . و في حب العربية يقول نبينا الكريم : (( أحب العربية لثلاث ؛ لأني عربي ، و القرآن عربي ، و لسان أهل الجنة عربي ))
اللغة العربية موجودة لكنها على وشك الانقراض ، و ذلك بسبب اهمالها و تهميشهها ، و عدم اقبال طلاب العلم على استخدامها ، فلمَ لا نتعلم اللغة العربية و نستمد من جمالها الوضاء ، ذلك الجمال الذي لا ينفد أبداً . قال عمر بن الخطاب : (( تعلموا العربية فإنها من دينكم ، وقال أيضا : تفقهوا في العربية، فإنها تزيد في العقل، وتثبت المروءة )) .

لسان العروبة و عروبة اللسان ، عبقرية الإبداع ، و إبداع العبقرية تلك هي الضاد التي أعرفْ .
حسناء اللغات ، و فريدة الصفات ، و عديمة المثيلات ، بل سيدة الجميلات النادرات ... فهلا حافظتَ أيها العربي على لسانك العدناني من آثار التجوية الأعجمية الفتاكة ، كن فصيحاً قوياً عنيداً ، حارب جميع العواصف التي تعصف بك لتقتلع ملامح عدنان ، و اجعل شعارك دائما هذا البيت من الشعر : أنا لن أخاطب بالرطانة يعرباً أو أستعير مترجماً لبياني .
أيتها الأم الحبيبة إليكِ ما جرى بيني و بين قلمي الغائر :
سألته ذات يوم: ألا تكتب ؟!
أجاب : ماذا أكتب ؟
قلت : اكتب ما أقاسيه حزنا و أتجرعه ألما ...
قال : فإذا كتبتُ فبأي لغة أكتبْ ؟
أجبت : ياللعجب !! . أتسألني بأي اللغات أنت كاتب و تلك علتي ، سامحك الله أيها القلم .
قال : اعذريني سيدتي . فقد كثرت اللغات و توالت ، فهاهي أعجمية راطنة ، و ها هي لهجة سوقية هجينة ... فعذراً .
قلت : أتتنوع اللغات و اللغة واحدة ، و تولد لغات و لغتنا وليدة ، من يرعاها يا ترى ؟؟!!
قال : لا تسألي قلماً هجر العربية و لم يعتد إلا على كتابة هجين غريب ، و دارج بسيط .. بل أسألي أولئك الأبناء البررة ـ زعما ـ و ليس لهم في البر من شئ ، أسأليهم عن أمهم الميتة الحية .
قلت : أيها القلم . رفقاًَ بأولئك الأبناء ؛ فهم في غفلة من أمرهم و على عقولهم غباوة و غشاوة لا تخترقها إلا اللغات الوليدة الهجينة .
قال : أتطلبين رفقاً بأولئك العاقين . لا عاش من يهين أمه حية كانت أو ميتة .
قلت : آلآن تكتب ؟
قال : نعم ، لمَ لا أكتب و أنا و أنت في الهم و الألام شرق ، كلانا فقيد الأم و هي حية و مسلوب الهوية .
قلت : إذاً . انظم شعرا أو سطر نثرا .... أكتب .. أكتب لا تتوقف .
قال : لغة العروبة .... هي ليلى العاشقين و جميلة للذواقين ... لها التقدير و التحية و الإخلاص الأبدي .
لغة إذا أدركت سحر بيانها أدركت معنى السحر في الأجفان.
دمتِ عربيتي .. هويتي دمتِ وطنا عدنانيا أسكنه دوما ، يحتضنني بكل حنان و جمال ينثر علي عبقرية جمالة ، و جمال عبقريته ، يلفحني بنقاء الصفاء و الرقي ، يرضعني أسمى آيات الروعة ، و يسقيني أروع آيات الجمال .
دمتِ عربيتي لحناً خالدا أعزفه على قيثارة الزمن أينما كنتُ و كنتِ ، و قصة أرويها لكل من يسمعني فيرتد الصدى ليزمجر و يدوي في أفاق الفصاحة و العروبة .
دمتِ شاطئا أتردد عليه دوما ؛ لأرضع الذي أبتغي ، شاطئا ترسي عليه مرافئ عواطفي و تستقر فيه مشاعري الضادية النقية ... لكِ الإخلاص أهديه دوما و أبدا .
دمتِ لغة أفتخر بها ما عشت ... أتغنى بمحاسنها و أمضي غير آبهة بنقادها ـ أعدائها ـ أحفظها في صدرٍ حفظتْهُ ذات يوم بكل حنان و عروبة .
دمتِ ليلى أتغزل بها و أنظم شعري في سبيل حبها ، فما أنا إلا عاشقة صبة ، و ما أنتِ إلا ليلى يغنيها قيس المحزون .
دمتِ حرفاً أيتها الحسناء ... دمتِ نبضاً ... دمتٍ جميلة جذابة ... معطاءة ، فلتكوني كما عهدتكِ دوما غيثاً يفيض من أعالي الروعة و الجمال ... يسقي أرضا عطشى طالما تاقت لذلك الجمال .
دمتِ تحفة أثرية نابضة تتناثر منها الشفافية و الروعة أينما وجدتْ .. أحفظها في صميم قلبي حيثما أنا .
فكوني شعراً فصيحا أو كوني نثراً قويما ... كوني كما تشاءين لا يهم ما تختارين .. ما يهم أنكِ ستظلين في نظري أجمل البساتين و أزكى الرياحين ، و منية العاشقين الوامقين .
دومي عطرا نرجسيا أشتمه في أي روضة رقيقة الزهور ... دومي جمالا ورديا نقيا يدغدغ أحاسيسي ، ينعشني و يحي الروعة من العدم ... فلتدومي ضاداً ، و لتدومي لغة ... بل و لتدومي أيتها الحسناء العدنانية .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق